تعد مشكلة توظيف خريجي الجامعات أحد التحديات الكبرى في سوق العمل السعودي والعالمي. وقد أشارت التقارير الصادرة من المرصد الوطني للعمل خلال العام 2023 م إلى أن نسبة توظيف الخريجين السعوديين خلال السنة الأولى من تخرجهم بلغت حوالي 41% فقط ثم ارتفعت إلى 54% أي بزيادة قدرها 13% خلال عامين وذلك وفقًا لتقارير المرصد ذاته .
مما يعني –بصورة تقريبية- أن قرابة أربعة من كل عشرة خريجين يواجهون صعوبة في الحصول على وظيفة مباشرة.
تتأثر قابلية التوظيف للقوى العاملة المستقبلية بعدة عوامل متنوعة يمكن تصنيفها إلى ثلاثة جوانب رئيسة حسب الاطار الأمريكي لتوظيف:
• أكاديمية تتعلق بجودة التعليم والتأهيل.
• غير أكاديمية مرتبطة بالأنشطة والخبرات الشخصية المكتسبة خارج المنهج.
• شخصية خارجة عن سيطرة الطالب مثل الحالة الصحية والمظهر الخارجي (Physical Appearances) وهي خارج نطاق المقالة.
سيُقدَّم فيما يلي تحليل مفصّل لكل جانب من تلك الجوانب مدعوم بإحصاءات ودراسات عالمية، يعقبه استعراض للتوصيات الكفيلة بتمكين المؤسسات التعليمية والطلبة على حدٍّ سواء من مواكبة التغيرات المتسارعة في احتياجات سوق العمل.
أولًا: العوامل الأكاديمية وأثرها العالمي في توظيف الخريجين
تؤدي جودة التعليم الجامعي والبرامج الأكاديمية دورًا حاسمًا في تعزيز قدرة الخريج على الالتحاق بسوق العمل.
وقد بيّنت دراسات عالمية أن مؤهلات الطالب العلمية وسمعة البرنامج الدراسي تنعكسان بصورة مباشرة على فرص التوظيف ونستعرض فيما يلي أهم العوامل الأكاديمية المؤثرة في هذا الجانب:
1. الاعتماد الأكاديمي وجودة البرامج:
يُعَد الاعتماد الأكاديمي مؤشرًا موثوقًا على جودة البرنامج التعليمي وامتثاله للمعايير العالمية، وهو ما ينعكس إيجابًا على ثقة جهات التوظيف بخريجيه.
فعلى سبيل المثال، أظهرت دراسة حديثة في الولايات المتحدة أن خريجي برامج إدارة الصحة المعتمدة تخصُصِيًا حققوا معدلات بطالة أقل بشكل ملحوظ (حوالي 3.2–3.6% ) مقارنة بخريجي البرامج غير المعتمدة) حوالي4.6–5.9% ) خلال الفترة نفسها، كما حصل خريجو البرامج المعتمدة على رواتب ابتدائية أعلى بمقدار يتراوح بين 8 إلى 10 آلاف دولار سنويًا عن نظرائهم.
وتؤكد هذه النتائج ما ذهب إليه الباحثون من أن الاعتماد الأكاديمي يُعد مؤشرًا على الجودة لدى جهات التوظيف، إذ يضمن أن الخريجين تلقّوا تعليمًا عالِ المستوى يؤهلهم لأدوار قيادية ومهنية وبوجه عام، ترتفع قابلية التوظيف في المؤسسات التعليمية ذات السمعة القوية والبرامج المعترف بها، بينما يواجه خريجو المؤسسات الضعيفة أو غير المعتمدة تحديات أكبر في سوق العمل.
2. جودة التدريس والمحتوى العلمي:
إلى جانب الاعتماد الأكاديمي، فإن مستوى جودة التعليم والتدريس في القسم العلمي يؤثر بشكل مباشر في جاهزية الطالب لسوق العمل وتُعد مهارات الأستاذ في توصيل المعلومة إضافةً إلى استراتيجيات التعليم التي تركز على تنمية المهارات التحليلية والتفكير النقدي عناصر أساسية تسهم في إعداد طلبة أكثر كفاءة وقدرة على حل المشكلات.
وقد أصبحت هذه المهارات بالغة الأهمية عالميًا، إذ يُصنِّف أصحاب العمل التفكير التحليلي، والإبداع، والمرونة، والقيادة، والتعاون ضمن أبرز القدرات المطلوبة في سوق العمل الحديث، كما أن البرامج التي تحرص على مواءمة مناهجها مع متطلبات الصناعة الحالية، وتعمل على إشراك الطلاب في تطبيقات عملية ومشاريع بحثية، تنجح في تزويد الخريجين بالخبرة والمعرفة التطبيقية التي تزيد من فرص توظيفهم.
وتُظهر الدراسات أن سمعة الجامعة الأكاديمية تؤدي دورًا مهما أيضًا، إذ يميل أصحاب العمل إلى استقطاب خريجي الجامعات المعروفة بتميزها العلمي وبرامجها ذات الصلة باحتياجات السوق.
3. التدريب الميداني والخبرة العملية أثناء الدراسة:
يعد التدريب العملي - أو ما يعرف أحيانًا بـالتدريب التعاوني- جسرًا أساسيًا يصل بين الجانب النظري وسوق العمل، فهو يمنح الطلبة خبرة واقعية في بيئة العمل، ويطور لديهم مهارات تطبيقية، إضافةً إلى بناء شبكة علاقات مهنية مبكرة.
وقد أكدت الإحصائيات العالمية أهمية هذا العامل، إذ أظهرت بيانات منصة LinkedIn أن الطلاب الذين أتمّوا فترة تدريب عملي خلال دراستهم كانوا أكثر بنسبة 25% في الحصول على وظيفة دائمة خلال الأشهر السته الأولى من التخرج، مقارنة بمن لم يخوضوا أي تدريب.
كما أظهرت النتائج أن الذين شاركوا في برامج تدريبية تلقّوا عروضًا وظيفية أكثر بنسبة 76% من نظرائهم الذين لم يكتسبوا أي خبرة عملية.
لهذا السبب تُلزم كثير من الجامعات -في السعودية والعالم- طلابها بقضاء فصل دراسي أو صيفي في التدريب الميداني بالتعاون مع جهات التوظيف، ويأتي ذلك إدراكًا لما يوفره التدريب من بناء سيرة ذاتية قوية وزيادة فرص التوظيف فور التخرج.
ثانيًا: العوامل غير الأكاديمية (الشخصية) المؤثرة في توظيف الخريجين
لا يقتصر بناء قابلية التوظيف على التحصيل الأكاديمي فحسب؛ فالكثير من العوامل الشخصية وغير المنهجية تسهم في صقل مهارات الخريج وتعزيز فرصه في سوق العمل، ومن هنا ينخرط الطالب خلال سنواته الجامعية في أنشطة وفعاليات متنوعة خارج قاعات الدراسة تُكسبه خبرات حياتية ومهارات ناعمة لا تقل أهمية عن الشهادة العلمية.
نستعرض فيما يلي أبرز هذه العوامل غير الأكاديمية:
1. المشاركة في الأنشطة الطلابية وصقل شخصية الطالب:
يُعد انخراط الطالب في الأندية الطلابية والأنشطة الجامعية (مثل المبادرات اللاصفية، الفرق الرياضية، لجان التنظيم، المسابقات الثقافية، والأعمال التطوعية) عنصرًا جوهريًا في تطوير شخصيته ومهاراته الاجتماعية.
فالمشاركة في هذه الأنشطة، وما تتطلبه من تطوع وتحمل للمسؤوليات، تُعلِّم الطالب العمل الجماعي، والقيادة، وحل المشكلات في مواقف عملية واقعية.
وقد بينت دراسة مسحية شملت مئات الخريجين أن الأنشطة اللامنهجية تعود بفوائد ملموسة على النجاح الوظيفي، إذ تمنح المشاركين خبرات تنظيمية وتعزز لديهم الثقة بالنفس وتنمي قدرتهم على التكيف.
بل إن بحثًا حديثًا في بريطانيا كشف أن المشاركة الفاعلة في الأنشطة الطلابية كان لها تأثير إيجابي على فرص التوظيف بشكل يفوق تأثير المعدل الدراسي، حيث لم يظهر المعدل التراكمي (GPA) أثرًا يُذكر على عدد عروض العمل التي تلقاها الخريجون.
ويؤكد ذلك أن جهات التوظيف تنظر إلى ما هو أبعد من الدرجات الأكاديمية، فهي تقدّر السمات الشخصية التي تبنى عبر الخبرات القيادية والتطوعية مثل القدرة على التواصل، والعمل ضمن فريق، وإدارة الوقت تحت الضغوط.
ومن هنا فإن الطالب الذي يتخرج وقد شغل منصبًا في نادٍ طلابي أو قاد مشروعًا تطوعيًا، يُظهر ذلك لسوق العمل امتلاكه مهارات التعاون والالتزام والمسؤولية، وهو ما يمنحه ميزة تنافسية عند التوظيف مقارنة بمن اكتفى بالجوانب الأكاديمية فقط.
2. اكتساب المهارات الناعمة (التواصل والقيادة وغيرها):
تُعرَّف المهارات الناعمة بأنها مجموعة القدرات الشخصية والاجتماعية التي تمكّن الفرد من التفاعل الإيجابي في بيئة العمل، وتشمل : ( الاتصال الفعّال، والعمل الجماعي، والقيادة، وحل المشكلات، والتفكير الإبداعي، وإدارة الوقت وغيرها)، وغالبا ما تتطور هذه المهارات خارج الفصول الدراسية التقليدية، من خلال الاحتكاك الاجتماعي، والمشاركة في الأنشطة، والتعامل مع مواقف حياتية متنوعة خلال المرحلة الجامعية.
وقد أصبحت المهارات الناعمة اليوم عنصرًا حاسمًا تضعه الشركات في مقدمة معايير التوظيف. فوفقًا لتقرير حديث لشبكة LinkedIn العالمية، صرّح (89% ) من مديري التوظيف بأن السبب الأكثر شيوعًا لفشل تعيين الموظفين الجدد هو افتقارهم لهذه المهارات.
وبعبارة أخرى، قد يمتلك المرشح مؤهلًا علميًا قويًا لكنّه يفتقرإلى القدرة على التواصل، أو العمل ضمن فريق، أو التكيف مع ثقافة الشركة مما يعيق نجاحه الوظيفي.
لذلك إتقان اللغة والتواصل الجيد والمهارات القيادية كلها عوامل تميز الخريجين الناجحين في العثور على وظيفة.
ومن هنا، فإن إتقان مهارات اللغة والتواصل الفعّال، إلى جانب القدرات القيادية، يمنح الخريجين تميزًا في الحصول على الوظائف، يفوق أحيانًا التفوق الأكاديمي وحده.
ولهذا السبب، باتت الجامعات تعنى بتنظيم دورات وورش عمل لتنمية المهارات الشخصية لدى طلبتها، مثل مهارات العرض والتقديم، والمقابلات الوظيفية، وبناء شبكات العلاقات المهنية.
إن الخريج الذي صقل مهاراته الناعمة عبر سنوات الجامعة – من خلال ممارسة مهارات التفاوض والإقناع في المناظرات أو طوّر مهارة الخطابة عبر الأنشطة الثقافية- سيبدو أكثر جاهزية وثقة أمام لجان التوظيف.
وباختصار فإن الشهادة الجامعية لا تكفي بمفردها، بل تحتاج على أن تقترن بمهارات شخصية قوية ليكتمل إعداد الخريجين لسوق العمل الحديث الذي يمنح هذه القدرات أولوية بالغة.
التوصيات و مواكبة التغيرات المستقبلية لضمان توظيف الخريجين
ختامًا، يتضح أن قابلية توظيف الخريجين عملية متعددة الأبعاد تتداخل فيها جودة التعليم مع مهارات الطالب الشخصية وظروفه الفردية.
ومع التسليم بأهمية معالجة جوانب القصور الأكاديمي وتنمية المهارات، يضل التحدي الأكبر هو التغير المستمر والسريع في احتياجات سوق العمل من جيل إلى آخر، فالعالم اليوم يشهد تحولات تقنية واقتصادية متسارعة تفرض على المؤسسات التعليمية مراجعة منهاجها باستمرار حتى لا تصبح مُتقادمة، وكما يُقال"من لم يتقدم يتقادم" أي أن من لا يواكب التطور فسيتخلف حتمًا عن الركب.
وتشير التقارير العالمية الحديثة إلى مدى تسارع تغير المهارات المطلوبة في سوق العمل. فقد خلص منتدى الاقتصاد العالمي (WEF) في تقريره "مستقبل الوظائف 2025" إلى أن أصحاب العمل يتوقعون تغيّر ما يقارب (59% ) من المهارات الأساسية للعاملين بحلول عام 2030. وبالمثل، أظهرت دراسة على سوق العمل الأمريكي أن متطلبات المهارات للوظائف المتوسطة قد تغيرت بنسبة (32%) خلال فترة ثلاث سنوات فقط نتيجة التطورات التقنية المتسارعة.
تكشف هذه الأرقام أن كثيرًا من المعارف الحالية قد تصبح غير ذات صلة خلال أقل من عقد، لتحل محلها مهارات وتخصصات جديدة كليًا، وهذا يفرض على الجامعات أن تكون سبّاقة في التنبؤ بهذه التوجهات، وتكييف برامجها التعليمية بما يتلاءم مع مستقبل سوق العمل.
تضع رؤية المملكة 2030 قضية مواءمة مخرجات التعليم مع متطلبات الاقتصاد على رأس الأولويات. فقد أكدت وثائق الرؤية ضرورة تطوير تخصصات المستقبل في مجالات مثل التقنية والهندسة والرعاية الصحية، وضمان أن يمتلك الخريجون المهارات العملية المطلوبة للمشاريع التنموية.
انطلاقًا من ذلك، يتعين على الجامعات السعودية تحديث خططها الدراسية بشكل دوري بالتعاون مع جهات التوظيف في القطاعين العام والخاص.
ومن الخطوات المهمة في هذا الاتجاه تعزيز برامج التدريب التعاوني وتوسيع الشراكات مع أصحاب العمل بما يتيح للطلاب تطبيق ما تعلموه خلال الدراسة واكتساب خبرة عملية قبل التخرج.
كما ينبغي أن تولي الجامعات اهتماما أكبر بتنمية المهارات الناعمة وريادة الأعمال عبر إدراج مقررات في التفكير الإبداعي وحل المشكلات أو تنظيم مسابقات للمشاريع الناشئة مما يشجع الطلاب على الابتكار ويؤهلهم لخلق فرصهم الوظيفية بأنفسهم.
تمثل برامج الإرشاد المهني المستمر ركيزة إضافية في هذا المسار، إذ يتوجب أن تتابع الخريج حتى بعد تخرجه، مقدمة له المشورة والتأهيل الإضافي( Upskilling-Reskilling ) وفق احتياجات السوق ، بدلًا من النظر إلى التعليم الجامعي كمحطة نهائية و الأخطر من اعتبار التعليم الجامعي محطة نهائية هو الرضا بجمود المناهج، فذلك يحد من قدرة الجامعات على تهيئة خريجين يمتلكون مهارات المستقبل ، فمفهوم "التعلم مدى الحياة" لم يعد ترفًا، بل أصبح ضرورة تمليها وتيرة التغييرات المتسارعة في اقتصاد المعرفة.
وباختصار، يتوجب على الجامعات تبني عقلية ديناميكية مرنة تواكب التحولات بدلاً من الاقتصار على الدور التقليدي. فإذا ظلّت المناهج وطرق التدريس جامدة دون تحديث، ستتسع الفجوة بين ما يتلقاه الطالب في قاعات الدرس وما تتطلبه الوظائف الفعلية في سوق العمل.
والعواقب واضحة: ارتفاع في البطالة بين الخريجين من جهة، ونقص في الكفاءات الجاهزة للقطاعات الحيوية من جهة أخرى.
لذلك، تبقى المسؤولية مشتركة بين الجامعات وأصحاب العمل وصنّاع السياسات لسد هذه الفجوة. فالجامعات مطالَبة بالانفتاح أكثر على صوت القطاع الخاص وفهم المهارات التي يبحث عنها السوق حاليًا ومستقبلًا، وتطوير برامجها وفقًا ذلك.
وعلى الشركات أيضًا أن تستثمر بدورها في دعم التعليم والتدريب (سواءً عبر توفير المزيد من فرص التدريب الميداني ورعاية برامج الجامعات).
أما الجهات الحكومية، فيقع على عاتقها وضع سياسات مرنة تتيح تحديث التخصصات الجامعية بسرعة واستحداث برامج جديدة تخدم القطاعات الناشئة.
وفي الختام، نخلص إلى أن تعدد العوامل المؤثرة في توظيف الخريجين لا يلغي أن التأقلم مع متطلبات العصر هو العامل الأبرز لضمان نجاح الأجيال القادمة مهنيًا.
فلكل جيل ظروفه وتحدياته الخاصة ، وما يحتاجه سوق العمل يتغير باستمرار.
من هذا المنطلق، فإن الجامعات التي لا تلتفت لهذه التحولات ولا تواكبها بالتطوير سوف تتراجع وتفقد قدرتها على إعداد خريجيها للمستقبل.
أما الجامعات التي تتبنى التطوير المستمر وتغرس في طلبتها حب التعلم والتكيف، فستظل دومًا مصنعًا للكفاءات ومصدرًا للقوى العاملة الماهرة التي تقود الوطن نحو التقدم.
إن التقدم في التعليم والتأهيل ليس خيارًا بل ضرورة حتمية تمليها مقولة
((( إذا لم نتقدم فسنتقادم )))
لذلك علينا جميعًا العمل على أن نتقدم بخطى واثقة مواكبةً لعجلة التغيير السريعة.
لو افترضنا -جدلًا- بأن الخريجين جميعًا على أعلى مستويات التأهيل فهل يستطيع سوق العمل استيعابهم كافة، و تصل نسبة التوظيف لـ 100% أم أن الأمر يستدعي إعادة النظر في أعداد المقبولين في الجامعات وتوزيع تخصصاتهم ؟
أ.د. فؤاد بن عبدالعزيز أبو لبن عميد شؤون الطلاب بجامعة الملك عبدالعزيز |