الانتقال الى المحتوى الأساسي

جامعة الملك عبدالعزيز

KING ABDULAZIZ UNIVERSITY

الملف الصحفي


عنوان الخبر :عثمان الصّيني وأوراق مكّية
الجهة المعنية :مقالات أعضاء هيئة التدريس
المصدر : جريدة المدينة
رابط الخبر : أضغط هنا
تاريخ الخبر : 29/02/1435
نص الخبر :

عاصم حمدان
 
عثمان الصّيني وأوراق مكّية

* لم تزل أسئلة الزّميل السّريحي تحاصرني، ومنها: هل سأبقى في جدّة بعد بلوغي سنَّ التّقاعد؟ وهممت أن أسأله عن الحيِّ الذي يعرفه -أعني حيَّ الرّويس- بنخيله الذي يذكّرني بالنّخيل الذي كانت تشتهر به بساتين المدينة المنوّرة، وأناسه الطيبين، وبحاراته وأهازيجهم، التي كانوا يبدعونها من غير صنعة وتكلّف، سواءً كانوا في حلقة «الرّديح» أو «المزمار»، ولكنّي توقّفت، ثمّ تنامى إلى مسمعي أنّه وضع كتابًا عن هذا الحيِّ الذي طاولته يد الإزالة والتغيير، ولعلّ أبناء الأحياء الأخرى يتوفّرون على كتابة ما تختزنه ذاكرتهم عنها، وما كانت تجسّده علاقة أهلها مع بعضهم البعض من روابط قوامها الحبّ والتكاتف.
* مع بداية التّسعينيات الهجريّة دلفنا إلى قسم اللغة العربية، وكان خرّيجو دار التّوحيد بالطّائف الأكثر عددًا، وكانت خلفيتهم العلميّة في مواد النّحو واللّغة ممّا لا يمكن أن يخطئه الآخرون من الطلاب.
كما كان أساتذتنا من أمثال الدكاترة والأساتذة الكرام: حسن جودة، محمود زيني، ناصر الرّشيد، عبدالصبور مرزوق، عبدالبصير حسين، لطفي عبدالبديع، علي بكر الكنوي، جميل ظفر، مصطفى عبدالواحد، وغيرهم، يشجعوننا على الكتابة والنّشر، وكانت أسماء من الأجيال السابقة المنتمية إلى القسم سبقتنا إلى عالم النّشر من أمثال الدكاترة: عبدالله باقازي، طالع الحارثي -رحمه الله-، ومحمّد يعقوب تركستاني، وفاروق با سلامة، ومن خارج القسم كانت شخصية الدكتور حمد المرزوقي الأكثر شهرة وإثارة، وكان ينتزع أعجاب الكثيرين في داخل القسم الجامعي وخارجه، لثراء ثقافته وتنوّعها. وسألت في مكالمة هاتفية جرت بيني وبين الزّميل الكريم الشّاعر والأديب سعد الحميدين -أخيرًا- عنه؛ فأجابني أنّه بخير، ثمّ قال معقّبًا: «لقد أخذت الصحافة جلّ أوقاتنا»، فتذكّرت مقولة المفكّر البريطاني دنيس هيلي Dennis Healey عندما قارن بين فنيِّ السياسة والكتابة، وجعلهما من أكثر المهن التي تستدعي الحضور الدّائم، مضيفًا أنّها أحيانًا تتسبّب، بطريق آخر، في انطفاء جذوة الحياة مبكّرًا لدى المشتغلين واللّصيقين بها.
* كانت الحلقة العلمية التي تُعقد في قسم اللغة العربية بمكّة المكرمة آنذاك مثارًا لحوار ونقاش دائمين، وكان من أكثر الموضوعات حضورًا قصيدة التّفعيلة والشّعر الحر Free verse عند السيّاب، ونازك الملائكة، وعبدالوهّاب البياتي، وصلاح عبدالصبور، وامتدادها في أدبنا السّعودي، كما هو الشّأن عند العوّاد، وشحاتة من جيل الروّاد، وأجيال بعدهم مثل: غازي القصيبي وناصر بُوحيمد، وحسن القرشي، ومحمّد العامر الرّميح، ومحمّد العلي، وسعد البواردي، وسعد الحميدين، وسواهم من الأجيال اللاحقة، وأزعم أنّ تلك الحلقات الأدبية والنّقدية كانت باعثًا لنا لنقرأ ونطّلع، وكان الزّميل والصّديق الدكتور عثمان الصِّيني يرفدني بما يتوفّر له من كتب في الأدب الحديث، التي كانت متوفّرة في مكتبات الطّائف، ومكتبة الثّقافة في سوق اللّيل، ومكتبة أحمد حلواني بحيِّ الشّامية، ولعلّ جيل الأساتذة والأدباء المعروفين من أمثال: محمّد عمر العامودي، وعبدالعزيز خوجة، ومحمّد سعيد طيّب، وحمزة فودة، ومحمّد صالح باخطمة، وأسامة السّباعي، ومحمّد عبده يماني، وعبدالله جفري -رحمهما الله-، أدركوا مكتبة الحلواني في موضع آخر، كما أنّهم كثيرًا ما يذكرون في مدوّناتهم الخاصّة مكتبة «عُرابي»، وأخال موضعها كان بالقرب من باب السّلام.
* لم تنقطع صلتي بالدكتور عثمان، والذي رغبنا في قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجدة أن ينضمّ إلينا، لحاجتنا إلى تخصّصه، ولكنّه فضّل أن يلج عالم الصّحافة، ففعل. وكنت أشفق عليه من مهنة المتاعب، فصخبها وضجيجها هو ممّا لا يستطيع من يدخله الصّمود فيه إلا بالإرادة القويّة، والعزيمة المتوثّبة، والأمل في غدٍ أكثر ألقًا وطمأنينة.
* وأزعم أنّ أبا محمود كان من القلّة الذين ولجوا الصّحافة من باب الأدب، فاجتاز -بتوفيق من الله- القنطرة؛ بل واستطاع بعزيمته الصّادقة وطموحه المتوثّب أن يواجه أعاصيرها وأمواجها العاتية، وعندما تسلّم المجلّة العربية، رئيسًا لتحريرها بعد أن ترجّل عنها الأديب الأستاذ حمد القاضي، عمل عثمان على تطويرها بما يتلاءم مع السّياق الأدبي الجديد، وكان كتاب العربية ممّا تتلقّفه الأيدي بكثير من الشغف، وكان من آخرها «أسس العلوم الحديثة في الحضارة الإسلامية» للدكتور خالد حربي. وذكر عزيزنا د. عثمان في استهلاله للعدد 443 من المجلّة أنّ العربية قامت بولوج باب الترجمة، حيث ناهزت إصداراتها في فترة يسيرة مئة كتاب مترجم في الثّقافة والعلوم للكبار والناشئة عن الإنجليزية والفرنسية والألمانية والرومانية والهندية والصّينية والأسبانية، وذلك لعمري إنجاز كبير يحسب للمجلّة التي تنال الكثير من دعم الوزير المثقّف معالي الدكتور عبدالعزيز خوجة، وكثيرة هي حسناته في هذا المرفق المهم.
ويأتي اختيار الزّميل عثمان لرئاسة تحرير صحيفة مكّة المكرمة تتويجًا لمسيرة ثقافية وأدبية وصحافية بدأها مع نشأته الأولى في ظلال البيت الحرام، حيث متنزّل الوحيِّ على النّبي الخاتم، صلّى الله عليه وسلّم، ومواطن سيرته الطّاهرة، ومنبع العلم والمعرفة من الحرم والجامعة، حيث كانت حلقات الدّرس في مختلف العلوم والفنون؛ الشرعي منها والعلمي والتاريخي والأدبي والفلسفي، وحيث يسطع الضوء من سمائها المباركة ليصل إلى أصقاع المعمورة، ممزوجًا ومطبوعًا بثقافة الوسطية والاعتدال والتّسامح، والبعد عن الغلوِّ والتطرّف وما يبثّانه من حقد وكراهية، وهما الأبعد ما يكونا عن مقاصد الشرع الحنيف. وإنّني لأسأل الله لك يا أبا محمود في هذه الإطلالة المتواضعة أن يوفّقك، ويسدّد خطاك، ويحسن عاقبتنا جميعًا في هذه الدار الفانية، إنّه على كلّ شيء قدير


 
إطبع هذه الصفحة