الانتقال الى المحتوى الأساسي

جامعة الملك عبدالعزيز

KING ABDULAZIZ UNIVERSITY

الملف الصحفي


عنوان الخبر :فقدتُ أمي...
الجهة المعنية :مقالات أعضاء هيئة التدريس
المصدر : جريدة عكاظ
رابط الخبر : أضغط هنا
تاريخ الخبر : 29/12/1434
نص الخبر :
ذكرى

د. ابتسام حلـواني

يتجاوز الفقد معناه حين يرتبط بأغلى الناس في حياة الإنسان، فقدتُ أمي .. أمي التي كانت هي الحياة نفسها بالرغم من مرضها وعجزها، كانت تملأ الدنيا بوجودها في حياتنا، وظلت تصارع المرض وتتحمل الألم لتزيد رصيدها من الأجر بفضل الله.
أمي .. لم تكن ككل الأمهات، كانت من النوع النادر الذي يقدس أمومته بشكل يجعل من أبنائه وبناته محور الحياة وجوهرها، كنا عالمها الوحيد وشغلها الشاغل ودنياها الخالدة وكانت في الوقت نفسه كأي أم تظل هي الحضن الدافئ والملاذ الآمن، فالفرح يأخذك إليها والحزن يأخذك إليها وكذلك الفزع والجزع والخوف، حتى انغماسك في أمور حياتك عندما تخرج من حضنها لا يلبث أن يعود بك إليها لتشملك بدعوة صافية أو عبارة حب ورضا، فإذا ما فقدتَ هذا النبع الصافي من النقاء هل ستحلم بمجرد وجود مثيله في ذات مكان!!
أمي التي رحلت منذ أيام، هل رحلت فعلا، لا لم ترحل فهي باقية في أعماق النفس وحنايا القلب، يمر بخاطري خيال حكاياتها حين تحدثنا عن نفسها وقد تزوجت وهي بنت تسع سنين فحاربت لتتعلم القراءة والكتابة ممن حولها، حتى مبادئ اللغة الإنجليزية أحبتها بعنف واكتسبت ما يكفيها منها لتقرأ لنا تلك القصص الصغيرة الجميلة التي أحببناها، واستمرت في حماسها حتى أكملت مسيرتها البسيطة في اكتساب العلم بين الكتب والأوراق والصحف والمجلات، وتعلمت الخياطة بنفسها كما أتقنت الطهي وبرعت فيه حين كان جدي يعلمها قواعده يرحمهما الله،
لأول مرة في حياتي أحضر صلاة الميت في المسجد الحرام وبين الأموات أحد يخصني والحمد لله، خرجتُ وشقيقاتي الأربع بعد خروج الجنازة من البيت إلى المسجد الحرام، صلينا الفجر ثم أدينا صلاة الميت، اضطرب بداخلي شعور غريب لا أستطيع وصفه في تلك الأثناء، كانت جنبات المسجد الحرام تضج بأنفاس تلك الآلاف المؤلفة من الحجيج الذين دعوا لأمي وهم يدعون لأموات ذلك الفجر الحزين، وهي مشمولة بإذن الله بحديثه صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليغفر للحاج ولمن دعا له الحاج).
يا حظكِ يا حبيبتي .. قاسيتِ وعانيتِ وتألمتِ، لكنك حظيتِ بصبر راحلة أنتِ للتمتع بأجره، وفزتِ بدعاء انهمر كالمطر من الجموع المحتشدة فهنيئا لك الأجر والفضل. اليوم نفتقد لذة الرحيل إليكِ، والسؤال عنكِ وطعم تلك القبلات التي نطبعها فوق خديك الناعمين ورأسك الجميل ويديك الحانيتين، اليوم سنظل نفتقد الحب والحنان اللذين غادرا بمغادرتكِ الزمان والمكان، لكننا نظل نحمد الله أن مكننا جميعا من التواجد قربك وأنتِ تغادرين بعد أن انتشر أربعة منا في أنحاء متباعدة من الدنيا فكان أن جمعهم الرحيل على ألمه وقسوته.
ظللتِ طوال السنين تحاربين من أجل القيام بأدواركِ المتعددة دون تقصير، لم تنس في غمرة انشغالكِ وتعبكِ أن تشعلي ظلام الليل منذ طفولتنا بتهجدكِ الذي لم ينقطع على مر الليالي برفقة أبي يرحمه الله، لا أنساك في رمضان وأنتِ تقضين نهاركِ في أداء مسئولياتكِ المتعددة وقراءة القرآن لتسابقي الزمن بعد الإفطار هربا إلى المسجد الحرام، كنا نرجوكِ وأنتِ مرهقة أن ترفقي بنفسك وتصلي التراويح في البيت لكنك تمعنين في الرفض بل وتذهبين حتى للتهجد هناك.
أعجز يا أمي عن أن أصفكِ بما يليق بك ويعبر عنكِ، لكن الناس من حولك، الذين عرفوكِ وعاشروكِ وتعاملوا معكِ هم من أجادوا وصفكِ كنموذج من الطيبة والتسامح والصفاء والحب والنقاء.
أعتبر نفسي اليوم أعجز ما أكون عن القدرة على الكتابة أو التعبير فالموضوع أكبر من أن تصفه الكلمات أو يعبر عنه القلم، أنا أكتب فقط لأن بداخلي من المشاعر والأحاسيس ما يتصارع ولا أستطيع كبح جماحه أو السكوت عنه.
أعود بخيالي إلى بيت أبي وأمي وأفكر، منذ سنوات طويلة خلت كان البيت يعج بغير الناس والحياة غيرها .. كان للفرح طعم آخر وللحزن طعم آخر .. اليوم نحن بعض من ذلك الزمان لكننا تغيرنا أيضا .. لعل الحب في قلوبنا لم يتغير، إنما الحياة أجبرتنا على أن نتبعثر في دواخلنا خاصة مع رحيل أبينا ثم مع وضع من توجت ربيع حياتنا بكل المعاني العظيمة والتي شاءت إرادة الله أن تتركنا هي الأخرى وترحل .. هكذا ضاعت الحياة من حولنا وفقدنا الحبيبين اللذين صنعا كل شيء من أجلنا وأديا الواجب كأكمل ما يكون دون أن نستطيع الوفاء ورد الجميل ولن نستطيع.
أمي .. يا أروع الأمهات .. أنتِ الحب في أعماقنا، لن ننسى وجهك الذي اختفت من قسماته مظاهر التعب والإنهاك وحل مكانها النور والاطمئنان والبهاء ستبقى صورتك المشرقة في أعماق القلب وستبقين رمزا خالدا نحِنُ إليه ونفتقد عطره وجماله، كما ستبقين الأمل، وفي الله الأمل بأن يكرمك من واسع فضله بأضعاف ما عانيتِ لقاء مرضكِ وصبركِ وجهدكِ .. أملنا فيكَ يا الله ..

 
إطبع هذه الصفحة