الانتقال الى المحتوى الأساسي

جامعة الملك عبدالعزيز

KING ABDULAZIZ UNIVERSITY

الملف الصحفي


عنوان الخبر :فـضـي
الجهة المعنية :مقالات أعضاء هيئة التدريس
المصدر : جريدة عكاظ
رابط الخبر : أضغط هنا
تاريخ الخبر : 27/11/1434
نص الخبر :
تـرددت في شرائـها لأنها فضية اللون. وبالرغم من جمالها، وجمال هذا اللون بالذات في مداعبته للضوء على سطح «الوانيت»، وتعامله الجميل مع جميـع ألوان الطيف بطرق تؤكد على خطوطها الانسيابية، إلا أن اللون الفضي بشكل عام يسبب لي شخصيا الكثير من الإزعاج النفسي. وقبل أن أخوض في هذه الأسباب سأؤكد على بعض من روائـع هذا المعدن المتميز الجميل، وقد كتبت عنها مسبقا: أنعم الله على الفضة بخصائص مكافحة الجراثـيم، ولذا كانت تستعمل في تغليف الأواني المنزلية بكثرة عبر التاريخ، وستجدها اليوم في بعض الاستخدامات الطبية، بل وحتى في بعض مستحضرات التجميـل. وعلى ذكر مداعبة ذرات الفضة للضوء، فقد كانت من أهم مكونات الأفلام المستخدمة في التصويـر الفوتوغرافي الضوئي. وبالرغم من انكماش أهميته في هذا الشأن، إلا أن فوائده الأخرى ــ بإذن الله ــ رائعة جدا، ومنها خواصه النووية. والمقصود بذلك أن تركيبة ذراتـه، وعلاقاتهم بداخل الذرة وخارجها تجعله أفضل عنصر طبيعي على الإطلاق لنقل الطاقة الكهربائية في العالم، وهو ممتاز أيضا لنقل الطاقة الحراريـة. ولو كنت من محبي الحلوى مثلي، فستجد أن إحدى الحلول الأساسية لمشكلة تآكل غطاء أسنانك هي استخدام الفضة للحشو، والطريف هنا هو أنه يبدو أن كمية الفضة في حشو أسنان البشر تفوق إجمالي المحتوى الطبيعي للعنصر بداخل أجسامنا، والذي يقدر بما يعادل أقل من نصف وزن كيس شاهي واحد. الشاهد أن أهمية الفضة التاريخية كبيرة جدا لدرجة أن معدن الزئبق سمي نسبة إلى الفضة وقد أطلق عليه اسم «الفضة السريعة» Quick Silver وباللاتينية هو hydrargyrum ورمز المادة العلمي Hg يعكس ذلك. والأهم من ذلك أن هناك دولة بأكملها سميت باسم العنصر وهي «الأرجنتين» لأن الاسم اللاتيني للفضة هو «أرجنتم»، Argentum ، بل ونهـر «البلات» بين الأرجنتين والأورجواي هو انعكاس لاسم الفضة باللغة الاسبانية. ولكن في خضم تلك الخلفيات التاريخية سنجد ما هو مزعج جدا لأنه يعكس بطش الأقوياء على الضعفاء، والطمـع والجهـل والاستغلال في أقوى أدوارهم.
عندما وصلت القوات الاسبانية إلى شواطئ أمريكا الجنوبية عام 1532 فتحت إحدى أكبر فصول الاستغلال والظلم في تاريخ البشرية. اكتشف الاسبان بقيادة «بيزارو» كميات كبيرة من الذهب. وبدأ النهب بطرق لا يتخيلها العقل. واكتشف الغزاة أيضا أحد أضخم الجبال في وسط أمريكا الجنوبية. وكان اسمه «بوطوسي» Potosi ومعناها «الرعد الكبير». وكان يتميز بعروق الفضة العملاقة المحتوية على المعدن بكميات هائلة. وأصبح هذا الجبل أسطورة لنقل الثـراء من المستعمرات إلى أوروبا لدرجة أن هناك مقولة أن يسوى الشخص «بوطوسي» ومعناها أن يكون «مريش» أو «مليان» . والمقولة ساريـة المفعول في اللغة الاسبانية إلى اليوم. الشاهد أن عمليات استخراج الفضة من الجبل كانت إحدى أكبر عمليات النهـب في التاريخ لدرجة أن خلال مائتي سنة بدءا من نهاية القرن السادس عشر، وفـر هذا الجبل حوالى نصف الفضة للاستهلاك العالمي بأكمله على حساب إزهاق أرواح مئات الألوف من سكان أمريكا الجنوبية. اكتشفت المملكة الاسبانية مميزات صك عملتهم المعدنية الفضية، وزادت النقود في أيدى البشر. ولكن يبدو أن دماء الضحايا الغلابى كانت نقمة على تلك الثروة لأن الزيادة الهائلة في العملة الفضية في فترة قصيرة نسبيا تسبـبـت في تضخم مالي هائل زعزع الحركة الاقتصادية في المملكة الاسبانية آنذاك.
أشعر بالخجل من مقدار جهلي بالعديد من الأمور ومنها تاريخ القسوة والنهـب والافتراء. وأشعر بالتردد في اقتناء واستهلاك السلـع والخدمات ذات الخلفيات التاريخية المخزية للبشرية، وبسبب هذه الخلفية التاريخية الداكنة للفضة، فلن أشتري «الوانيت» الفضي.
أمـنـيــــــة
يتفوق الفضة على العديد من العناصر في فوائده للبشرية، ولكن بالنسبة لي شخصيا أرى فيه دائما ومضات من اللون الأحمـر الذي يمثـل دماء الضحايا عبر التاريخ.. أتمنى أن نثـقـف أنفسنا في العلوم والتاريخ بشكل كاف ولائق لنختار بحرص، ولنستفيد من تجارب الآخريـن.
والله من وراء القصد.

 
إطبع هذه الصفحة