الانتقال الى المحتوى الأساسي

جامعة الملك عبدالعزيز

KING ABDULAZIZ UNIVERSITY

الملف الصحفي


عنوان الخبر :حلاوة رضاعها ومرارة فطامها
الجهة المعنية :مقالات أعضاء هيئة التدريس
المصدر : جريدة المدينة
رابط الخبر : أضغط هنا
تاريخ الخبر : 26/11/1434
نص الخبر :

لا يبقى لمن ترك منصبه إلا أصدقاؤه الأوفياء الذين عرفوه قبل المنصب وأثناءه وبعده، فهؤلاء من يحفظون الود له مهما تقلبت به الأحوال

أ. د. محمد خضر عريف
حلاوة رضاعها ومرارة فطامها
لا يغيب عن بالنا دومًا ما روي عن أحد الصالحين من أنه أعرض عن الولاية، وحين سئل عن سبب إعراضه عنها قال "لأني عرفت حلاوة رضاعها ومرارة فطامها". والذي يهمنا في هذه المقالة هو "مرارة فطامها" ذلك أن كثيرًا من المسؤولين ومن تولوا مناصب كبيرة أو صغيرة قد ذاقوا مرارة فطامها، إذ يعرض الناس عنهم بمجرد تركهم لمناصبهم بل إن الناس الذين أحسن إليهم هؤلاء المسؤولون ينسون هذا الإحسان تمامًا، ومن أساؤوا إليهم لا ينسون هذه الإساءة.
ولا يبقى لمن ترك منصبه من المسؤولين إلا أصدقاؤه الأوفياء الذين عرفوه قبل المنصب وأثناءه وبعده، فهؤلاء فقط من يحفظون الود له مهما تقلبت به الأحوال أو عضّه الدهر بنابه.. وقد سمعت قصة معبرة جدًا حدثت في بلادنا عن مسؤول كان له مجلس يومي مسائي يحضره عشرات ممن يبدو أنهم أصدقاء ومحبون ومريدون، حتى تقاعد، وليلة تقاعده بادر ابن له بوضع الكراسي في أماكنها اليومية كالمعتاد، فأشار إليه والده أن يكُف، وأن يضع أربعة كراسٍ فقط، فسأله ولده عن السبب، فقال: اعتبارًا من الغد لن يأتي إليّ إلا فلان وفلان وفلان، وعدّد له أربعة من أصدقائه الأوفياء الذين يعرفهم حق المعرفة من قبل أن يتولى المنصب، وبالفعل لم يحضر إلا هؤلاء في اليوم الأول بعد تقاعده، بمعنى أن الآخرين لم يغيبوا عن مجلسه بالتدريج أي بعد أيام أو أسابيع، بل انقطعوا مرة واحدة منذ اليوم الأول. وأحسب أن ما حدث لهذا المسؤول، يحدث كل لمسؤولين آخرين ممن يتقاعدون أو يتركون مناصبهم أو مَن يعفون منها. ذلك أن كثيرًا من العلاقات الاجتماعية في هذه الأيام لا تقوم إلا على المصالح الشخصية، ويقل الوفاء وتندر الأخوة الخالصة لله، إلا من رحم الله ربك بالطبع. وفي كثير من الأحيان تكون قطيعة الأصدقاء ومن المسؤولين السابقين خصوصا بسبب الإهمال والانشغال وظروف وأحوال الحياة العصرية شديدة التعقيد، ولا تكون القطيعة في كل الأحوال بسبب نكران الجميل وانقطاع المصالح، لذا أجدها فرصة سانحة من خلال هذا المنبر الصحفي الشريف أن أدعو نفسي وقرائي إلى تذكر الأصدقاء على الدوام خصوصًا مَن كانوا في مناصب رفيعة وتركوها لسبب أو آخر، فهؤلاء بالذات هم من يتجرعون مرارة فطامها، حين ينفض عنهم أصدقاؤهم ومعارفهم وقد يتنكرون لهم في بعض الأحيان. فلنسعَ جميعًا إلى مواصلة هؤلاء وزيارتهم والاتصال بهم هاتفيًا على أقل تقدير، ولا تكفي رسائل الجوال التي ابتلينا بها رغم عمليتها وسرعتها، فهي تخلو من الحميمية ولا تمثل العلاقة الخصوصية جدًا مع أحبتنا، ولا يكفي أن يكون تواصلنا مع هؤلاء الأحبة في الأعياد والمناسبات فقط، فذلك تواصل لا يشعرهم بالخصوصية لأننا نتواصل مع كل الناس في المناسبات حتى الذين لا نعرفهم إلا لمامًا ولكن أسماءهم مسجلة في جوالاتنا أو مفكراتنا الخاصة. وهنا أشير إلى طريقة عملية لتذكر هؤلاء الأحبة على الدوام وهي استعراض قائمة الأسماء في الجوال يومًا بعد يوم، لأن الأخ القريب منك لابد من أن تسجل رقمه في جوالك، ثم تنتقي من هذه الأسماء من انقطعت عنه لفترة خصوصًا من المسؤولين السابقين الذين لم تعد لك مصالح معهم من قريب أو بعيد، وتبادر بالاتصال بهم في المواقيت المناسبة وما أجمل أن تخاطب الواحد منهم بأبي فلان، لأنك إن كنيته أشعرته بالمزيد من المحبة والحميمية والقرب من النفس، وفي حديثك معه أشعره بأنك تتصل به لمجرد السلام والاطمئنان عليه، فتدخل بذلك السرور على قلبه وتخرجه مما قد يشعر به من خيبة أمله في كثير من أصدقائه ومعارفه الذين هجروه بعد تركه لمنصبه، وإن كان لهذا الصديق مجلس كما أسلفت، وكنت ممن يرتادونه، فاحرص على الاستمرار في هذه العادة الحسنة وإن قلّت مرات حضورك عن السابق، فالمهم ألاّ تنقطع عنه بشكل كامل، وهو ما نحرص عليه دومًا مع أحبتنا وأصدقائنا وأساتذتنا. وإن لم يكن لصديقك القديم هذا مجلس، فزره باستمرار في المناسبات والأعياد وسواها وجامله في أفراحه وأتراحه بالحضور شخصيًا إليه.
وكل ذلك يدخل السرور إلى قلبه، ولا يشعره بمرارة القطيعة التي قد تراوده بعد انتهاء عمله في منصب ما، وإن كان ما روي عن أحد الصالحين كما أسلفت حاصلاً في القرون الأولى، فما بالنا بهذا القرن الذي نعيش فيه الذي كثر فيه نكران الجميل وقلَّ فيه الوفاء والعرفان.


 
إطبع هذه الصفحة