الانتقال الى المحتوى الأساسي

جامعة الملك عبدالعزيز

KING ABDULAZIZ UNIVERSITY

الملف الصحفي


عنوان الخبر :أزمة ثقة!
الجهة المعنية :مقالات أعضاء هيئة التدريس
المصدر : جريدة الوطن
رابط الخبر : أضغط هنا
تاريخ الخبر : 25/11/1434
نص الخبر :

أصبحنا مهرة في فنون الاتهام والتراشق وتجاهلنا مهارات التوافق والتسامح! وفي خضم انشغالنا.. يضيع جيل.. يتحلل مجتمع... ونعرض وطناً للخطر! الحل ليس عندي، الحل عند كل فرد منا، قبل أن نهاجم ونحاسب لنبدأ بأنفسنا

ماذا حدث لنا؟! كل فرد منا أصبح يمشي وكأنه مستنفر لدخول حرب، أي كلمة، أي عبارة، أي تصرف يبدو وكأنه إنذار حرب... إن ابتسمت فسرت على أنها تملق ومراوغة وقد تكون تمثيلا ومسكنة! وإن تجاهلت فسرت على أنها تكبر أو غيرة أو حتى كراهية! إن أخطأت رميت عليك "لا تصالح" وجردت من تاريخك، والشاطر الذي يفسر نواياك ويقضي ويحكم وينفذ، ولا يكتفي بذلك بل يجند عليك بقية البرية لتكتمل المسرحية! أصبحنا نسير وكأننا نحمل على كل قطعة من أجسادنا الظاهرة والخفية رقعة "الأهداف" كي يشمر كل من هب ودب عن ساعديه ويصوب سهامه... فكر، قلب، روح، مشاعر، أعمال، نوايا، عقيدة، أخلاق،.... دوامة، هذا أقرب تعبير أستطيع أن أصف به حياتنا اليومية، بمن نثق، ولماذا نثق، وعلى ماذا نثق؟! ما كان يوما يجمعنا كأسرة، وكأفراد وكمجتمعات تحول إلى فراغ مظلم... مرعب!
الموظف لم يعد يثق بمديره، ويتلفت حوله باحثا عما يخطط له من خصومات أو أعمال إضافية يسهر عليها لكي يأتي المدير ويقدمها باسمه.. المدير يشعر وكأنه يمشي على قشر بيض، أي قرار يفسر على أنه استبداد، أي تجديد يقابل بالمقاومة تصل أحيانا لحد التخريب.
المستهلك في حيرة من كل ما يبث له من إعلانات، أكثرها يعده بما يفوق الخيال.. ليكتشف فيما بعد أنها كانت أيضا أبعد من الخيال! المشاهد يقلب في القنوات الفضائية والأرضية ليجد أنه لم يصل لا لأرض ولا لفضاء؛ دراما هزلية إن لم يكن غالبيتها ساقطة في الأخلاق وفي المغزى وفي الأداء، برامج ترفيهية يحتاج الفرد أن يأخذ قبلها وخلالها حبوب الضغط والسكر.. حروب، قتل، ترويع، حوارات وتحليلات "فنتازية" لكل من شمر عن ساعديه ليغني على ليلاه!
المدرس لم يعد يثق لا بإدارة ولا بوزارة ولا بمجتمع، كيف يثق بمن لا يثق به من الأصل ويحدد له مسيرة كل خطوة ومراقبة تعد عليه أنفاسه، ويا ويله إن كان الشهيق أكثر من الزفير... كيف يثق بمن سحب منه جميع الصلاحيات لدرجه أنه أصبح هدفا للضرب والترويع والأذية بل وصل الأمر حد التهديد والقتل!
والطالب لم يثق يوما بأي مكون من مكونات المنظومة التعليمية! المطلوب منه أن يسير على خطط يقال له إنها وضعت من أجل مصلحته، وهو يجد أنه في واد وكل ما يقدم إليه في واد، ليس طبعا لأنها كذلك، ولكن لأنه لم يوضح له دوره، ولم يدرب على رسم طريقه، والأهم من كل ذلك لم يعط الثقة والتدريب الذي يمكنه من بناء طريقه ليصبح عنده الدافع بأن يبدأ ويكمل إلى النهاية، إن اعترض.. تَمرّد، وإن صمت وتراجع مستواه.. تكاسل، إن حاول أن يأتي بجديد وأمر مغاير عن المألوف أعتُبر ممن يثيرون البلبة والتأثير على تعلم بقية زملائه من الطلبة، وإن طالب بحقوقه يعامل وكأنه تعدى على حقوق الآخرين ويعاقب وقد يفصل!
والأسرة، والتي هي أخطر مكون لأي مجتمع، لم تنج من هذا التسونامي من انعدام الثقة! الأب يشك في بنته، والأم تشك في ابنها، والأب في الأم والأم في الأب، والأخ في الأخت، والأخت في الخالة والخالة في العمة، والعمة في الجدة، والجدة في السائق، والسائق في المستخدمة، والمستخدمة في الجميع... والجميع في الشغالة!
هل انتهيت؟! بالطبع كلا، هنالك المثقف، ومن يظن أنه مثقف، والأكاديمي ومن يظن أنه أكاديمي، والباحث ومن يظن نفسه أنه باحث، والإعلامي ومن يظن نفسه أنه إعلامي، والكاتب ومن يظن نفسه أنه كاتب، والأديب والشاعر والرياضي، وكل من يظن أنه كيان فاعل فيما هو لا يؤخر ولا يقدم! كل هؤلاء يعيشون أزمة الثقة فيما حولهم وبينهم وبين أنفسهم، كيف لا ولقد رأينا كل التناقضات والتراشقات والحروب التي تشن فيما بينهم، أكان يمكن أن تتواجد لولا أن هنالك أزمة ثقة؟!
أصبحنا مهرة في فنون الاتهام والتراشق وتجاهلنا مهارات التوافق والتسامح! وفي خضم انشغالنا.. يضيع جيل.. يتحلل مجتمع... ونعرض وطناً للخطر! الحل ليس عندي، الحل عند كل فرد منا، قبل أن نهاجم ونحاسب لنبدأ بأنفسنا، لنعترف.. لسنا ملائكة، لنواجه أعز صديق وأخطر عدو لنا إن لم نروضه... الذات البشرية، من هنا نبدأ وبعدها كل شيء يمكن أن يحل إن آمنا بأن هنالك حلا...أرضا مشتركة يمكن أن ننطلق منها.

ميسون الدخيل  

 
إطبع هذه الصفحة