الانتقال الى المحتوى الأساسي

جامعة الملك عبدالعزيز

KING ABDULAZIZ UNIVERSITY

الملف الصحفي


عنوان الخبر :سامحيني يا رضية
الجهة المعنية :مقالات أعضاء هيئة التدريس
المصدر : جريدة المدينة
رابط الخبر : أضغط هنا
تاريخ الخبر : 28/08/1433
نص الخبر :
أ. د. محمد خضر عريف
روى لنا معالي الشيخ احمد زكي يماني فيما يرويه من القصص والحكم والعبر والتجارب الثرية في مجلسه العامر بجدة قصة تتصل «بأهل أول» كما نسميهم نحن المكيين وأخلاق أهل أول وتواضع أهل أول، والمقصود بأهل أول أباءنا واجدادنا الذين ادركناهم وعاشوا في القرن الهجري الماضي في الحجاز قبل الطفرة المادية الكبيرة، ومع ذلك كانوا أمثلة تحتذى في حسن الخلق المستمد من ديننا الاسلامي الحنيف وعاداتنا الاجتماعية الطيبة المحببة، والعبر من حياتهم كثيرة لا تحصى، وقد تخيرت منها هذه العبرة من هذه القصة التي يرويها معالي الشيخ زكي عن احد اقربائه او معارفه من «أهل أول» الذي كان رجلاً مسناً في اخر ايامه وكان بسبب مرضه يتعشى «بزبدية» من الحليب يفت فيها بعض الخبز ليس الا وكانت له جارية اسمها (رضية) تعد له «الزبدية» كل ليلة، والزبدية لمن لا يعرفها هي اناء يشبه الإناء الذي نتناول به (الشوربة) هذه الايام ويسمى عند المصريين «سلطانية» وعند الشاميين «طاسة» وربما (كاسة). المهم ان هذا الرجل المسن طلب زبديته المعتادة ذات ليلة من خادمته او جاريته (رضية) فأخبرته ان الحليب الذي فيها قد انسكب او «اندلق» بعد أن عبثت به هرة او «بسة» كما نسميها واسقطت الزبدية، فضاع الحليب وعليه ضاع عشاء عمها الوحيد، وعليه فقد غضب الشيخ (وله ان يغضب) وقال لرضية: «يا خبيثة» اما كان يمكن ان تنتبهي «شوية» ولا تضيعي الحليب.
ومرت هذه الحادثة بسلامة، واخذت رضية في «خاطرها» و»مشي الحال» وإن تكن رضية الخادمة او الجارية قد نسيت هذه الحادثة الا ان هذا الشيخ لم ينسها ففي اليوم التالي كان اذا نادى رضية لاي سبب قال لها ابتداء: «سامحيني يا رضية» فتقول له: «سامحتك يا عمي». ومع ذلك ظل يردد هذه العبارة: «سامحيني يا رضية» كل يوم لسنوات حتى لقي ربه وهو مازال يرددها لانه احس بوخز الضمير بعد ان خاطبها بالخبيثة. انتهت القصة، التي لها مدلولات لا تحصى، اولها بالطبع ان اسلافنا من أهل أول كانوا يتقون الله في الخدم والعبيد، وكانوا يستكبرون ويستعظمون الاساءة اليهم ولو باللسان قبل ان يعتدوا عليهم بالضرب او الاهانة ومن المدلولات الاخرى بالطبع ان هذا الجيل كان يقدر النعمة كثيراً ويغضب لاهدارها ولو كانت «زبدية» من حليب لا يصل ما فيها الى ربع كيلو من الحليب على الاكثر، بينما تلقي الاسر في القمامة هذه الايام كل يوم من الطعام الجيد المتنوع ما يمكن ان يطعم عدداً من الاسر ويشبعهم. ومن مدلولات القصة ايضاً ان اهل اول كان طعامهم يوماً بيوم وعلى قدر حاجتهم فقط ليس بخلاً ولا فقراً بالضرورة لان كثيراً منهم كانوا على جانب من الثراء ولكن حفاظاً على النعمة وتقديراً لها واذكر تماماً: جاراً كريماً لنا في جبل الكعبة بمكة المكرمة هو العم حسين بالخير شقيق معالي الشيخ عبدالله بالخير وزير الاعلام الاسبق والشاعر والاديب الكبير، كان العم حسين يرسل «صبيه» اي خادمه الحضرمي كل يوم ظهراً ليشتري (نصف قرص عيش حب) يكفيه ويكفي زوجته رحمهما الله تعالى، يكفيهما لوجبة الغداء مع الارز والادام وسواه أعود للمغزى الاول لقصة «سامحيني يا رضية» وهو حسن معاملة الخدم الخصلة التي انعدمت في هذه الايام، ومع ان معظم الخدم سابقاً كانوا من العبيد والجواري الا انهم كانوا يعاملون على انهم من ابناء وبنات العائلة تماماً واقصد بـ»تماماً» «تماماً» وممن اذكرهم في هذا الباب: الخالة سعيدة التي كانت تعيش في دار عمنا وسيدنا السيد هاشم بن عبدالقادر البار رحمه الله، وكانت تعامل كأنها صاحبة الدار مع حرم السيد هاشم رحمها الله، اما اليوم، فيعامل كثير منا الخدم على انهم من العبيد والجوارى بعد ان تحرر العبيد جميعاً منذ زمن الملك فيصل رحمه الله تعالى.. ومازلنا نسمع ونرى كل يوم قصصاً يشيب لها الوليد من تعذيب ارباب وربات البيوت لخدمهم الذين جاؤوا بعقود عمل من دول اجنبية مثلهم مثل الموظفين العاديين في اي قطاع، ولكن قدرهم انهم يخدمون في البيوت، وتنشر الصحف صوراً لكثير من الخادمات اللاتي حرقت وجوههن بالمكاوى او الزيت او الماء وسوى ذلك واقل انواع الايذاء لهؤلاء عدم دفع رواتبهم كما سمعت عن قصص لعدم دفعها بالسنين وليس بالشهور في بعض المناطق، وتشغيلهم لثماني عشرة ساعة اوعشرين ساعة، ومنعهم من فتح الثلاجات وتجويعهم، الى اخر القائمة التي لا تخفى على احد منا. ولا انكر ان بعض هؤلاء الخدم لهم من الاضرار الاجتماعية اكثر من نفعهم بكثير كما كتبت عن ذلك مراراً ولعل وقف استقدام بعض الجنسيات اليوم ذو علاقة باضرارهم المستشرية ومع ذلك كله لابد لنا من ان نتقي الله فيهم، فقد قدر الله عليهم ان يتغربوا من بلادهم وان يذروا اهليهم وابناءهم وبناتهم ليقدموا الينا ويتقاضوا رواتب لا تسمن ولا تغني من جوع، فلنطعمهم مما نأكل ولنلبسهم مما نلبس، وايانا ان نعذب عباد الله، كما امرنا سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.


 
إطبع هذه الصفحة