الانتقال الى المحتوى الأساسي

جامعة الملك عبدالعزيز

KING ABDULAZIZ UNIVERSITY

الملف الصحفي


عنوان الخبر :التعليم بين الحفظ وبناء العقل
الجهة المعنية :موضوعات عامة
المصدر : جريدة الوطن
رابط الخبر : أضغط هنا
تاريخ الخبر : 05/02/1430
نص الخبر :

عندما يبدأ العام الدراسي في جامعاتنا, ويدور الدكتور في القاعة مستعرضاً مستوى طلابه الجدد, ويبدأ في فحص حصيلتهم المعرفية وينطلق في طرح الإشكالات العلمية العامة وقضايا المعرفة - موضوع الساعة, يجد أن حصيلة طلابه قليلة جداً في الغالب, ليس من الناحية المنهجية فقط, بل وحتى التاريخية, أعني أن يكون هناك حصيلة بتاريخ أي علم من العلوم, يستثنى منهم أفراد قلائل بنوا أنفسهم بأنفسهم, أو ساعدتهم ظروف العائلة المختلفة أو الوالدين المميزّين ليكونوا مختلفين, أما البقية الباقية والغالبية الساحقة والأكثرية الماحقة من طلابنا فحالهم يشبه حال زجاجات البيبسي وهي خارجة من مصنع الزجاج, كلها يشبه بعضها ولا يتميز واحد عن الآخر إلا في تفاصيل صغيرة لا أراها مهمة, لأنها فروقات في قوة الحفظ لا في قوة العقل. ماذا يمكن لدكتور الجامعة أن يصنع إن أراد لهؤلاء الطلبة أن يتصوروا النظريات العلمية الحديثة وهم لم يؤسسوا بعد, حتى تلك اللحظة التي وصلوا فيها إلى مرحلة الجلوس معه في قاعة يقال لها قاعة جامعية, في كلية, ولم يصلوا لجزء يسير مما يفترض أن يصلوا إليه في تلك اللحظة !
سيجد دكتور الجامعة أنه أمام تأسيس قوي في اللغة العربية وعلوم الدين الإسلامي, أما ما سوى هذا, فما عندهم هو أوهن من بيت العنكبوت. التركيز على التأسيس الديني واللغوي في المرحلة الابتدائية والمتوسطة وفي القسم الشرعي من المرحلة الثانوية مقبول ولا نقاش حوله مع ضرورة إشراك المواد العلمية بجرعات كافية في تلك المرحلة لأنها هي المرحلة - الأساس والأساس يصعب تغييره " كأي منزل " يفسده الهدم بعد البناء, لكنك لا تملك إلا أن تنزعج,إذا نظرت للمواد التي تدرس لأبنائنا في المرحلة الثانوية فحسبت عدد المواد الشرعية التي تدرس لطلبة القسم الذي نسميه " مجازاً " ( قسم العلوم الطبيعية ) وتم التعارف عليه تحت مسمى ( القسم العلمي ) فوجدت أنه يدرس خمس مواد دينية هي القرآن الكريم وتفسير القرآن والتوحيد والفقه والحديث والثقافة الإسلامية أضف إليها علوم اللغة العربية : النحو والصرف والأدب العربي, التي هي شرعية في نهاية المطاف, فمنذ عهد الكتاتيب, بل وفي قرون الإسلام الأولى كانت اللغة العربية تدرس لكي يفهم من خلالها الدين, هذا في مقابل خمس مواد علمية فقط هي الفيزياء والكيمياء والأحياء وعلم الأرض والرياضيات, بمعنى أن الطابع الديني مغلّب حتى في القسم العلمي, ومن المعلوم أن العلوم الدينية يغلب عليها طريقة التعلم عن طريق الحفظ والتلقين ولا يمكن أن يتم تعليمها إلا بهذه الطريقة أصلاً, قد يستثنى الفقه واستنباط الأحكام بالعقل من النصوص, لكن هذا مرفوض دينياً لمن لم يصل لرتبة الاجتهاد والقبول الاجتماعي ويعتبر عمله تجاوزاً ومخالفة, أضف إلى هذا أن حصة الفقه في تعليمنا لا تعلّم استنباط الأحكام أصلاً,و إنما يحفظ الطالب أحكاماً استنبطها له آخرون, وبالتالي نعود للمربع الأول, ألا وهو أن الطالب يخرج وهو لم يعرف من العلم إلا " ما حفظه " حتى إن عدوى الحفظ تنتقل لعلم الرياضيات الذي هو في الأصل قسم من أقسام الفلسفة الطبيعية والتي يعرّفها البعض على أنها دراسة البنى المجردة باستخدام المنطق والبراهين الرياضية ! ماذا يفعل الطالب ؟
هكذا تعلم, أن يجلس ويحفظ كل شيء !
ما أود قوله هنا, إن الحفظ أكبر عدو لبناء العقل وتنمية الطاقات الذهنية, فالحفظ يلتهم الوقت الذي يتطلبه, ولا يكتفي بالوقت, بل هناك تعارض منهجي بينه وبين العقل المتسائل المستنبط كحال المشرّق والمغرّب, فعقل الحافظ لا يميل للبحث عن حلول جديدة أو الاستكشاف والبحث, وإنما يبحث عما في جعبته من محفوظات وبالتالي يبقى يدور في حلقة مفرغة لا تلم بكل الاحتياجات قطعاً, وإذا أردنا أن يكون لدينا مخترعون ومكتشفون فلنخفف عن طلبة القسم العلمي المواد التي نطالبهم بحفظها ولنكتف بما لا يسع المسلم الجهل به من ضروريات الدين.
لابد أن يكون لدينا وعي حقيقي وإدراك واضح وإلمام شامل بما نريد أن يتعلمه طلابنا وعلى ماذا نريد أن نؤسسهم وماذا نريد لهم تحديداً بشكل موضوعي واضح الأهداف ومسلطة عليه الأضواء, فإذا قررنا أننا نريد من كل طلابنا بلا استثناء, أن يتحولوا إلى مشايخ وطلبة علم فلنفعله دون أن نوهم أنفسنا أننا نفعل شيئاً آخر أو أن نتخيل أننا لم نقصر معهم ووضعناهم على الأسس التي يحتاجون الوقوف عليها, أما إذا أردنا أن يكون عندنا تنوع في المشارب وتكامل في المعارف بحسب احتياجاتنا الاجتماعية وطموحاتنا الاستراتيجية,بحيث يكون هناك طلبة متجهون نحو العلوم الدينية وآخرون للعلوم الدنيوية التي تستكشف الكون والعالم والطبيعة وتشارك في مسيرة العلم التجريبي,فلنفعل هذا بطريقة صحيحة وليكن في مناهج المرحلة الثانوية مواد مثل المناهج البحثية العلمية والمنطق وجرعات من فلسفة العلوم التي تعلم الطالب كيف يفكر, كيف يعي عقله, كيف يستخدم عقله, كيف يكتشف, كيف يخترع, كيف يطوّر, بدلاً من أجزاء ونتف من الفيزياء والكيمياء والرياضيات سرعان ما ينساها الطالب لأنه لم يتصور حتى هدف هذه العلوم وغايتها ولا حتى تاريخها.


 
إطبع هذه الصفحة